كيف أدّى انهيار الاقتصاد الأمريكي في مطلع القرن العشرين إلى صعود هتلر للسلطة؟
نشر موقع “ميديوم” مقالا للكاتب “لوانيس ديديس” الذي شرح من خلاله تداعيات الانهيار المالي العالمي الذي بدأ في الولايات المتحدة سنة 1930 وانتهى باعتلاء هتلر وحزبه النازي سدة الحكم في ألمانيا.
وقال ديديس إن الانهيار الاقتصادي الأكثر ضررا في القرن، والمعروف باسم الكساد الكبير، لم يحمل عواقب خيمة للولايات المتحدة فحسب بل ألقى بظلاله على بلدان أخرى مثل ألمانيا وتسبب في تغيير مجرى التاريخ على نحو كارثي. إذ بينت روايات مختلفة أن الكساد الكبير ساهم بقوة في تصويت الشعب لهتلر وحزبه النازي.
يحلل هذا المقال كيف أثرت الأزمة المالية العظمى في الولايات المتحدة على بلد تفصله عنها قارة بأسرها إلى حد أنها تسببت في تغيير عالم السياسة الأوروبية إلى الأبد.
جمهورية فايمار تغرق بعد الحرب العالمية الأولى
تسببت معاهدة فرساي التي صادق عليها الغرب مع نهاية الحرب العالمية الأولى (1919) في حدوث مشكلات خطيرة للبلدان التي خسرت الحرب، وكان أبرز مثال على ذلك هو ألمانيا، إذ أدى عدم فهم المنتصرين، وخاصة بريطانيا وفرنسا، الذين أرادوا معاقبة الألمان على عدوانيتهم في الحرب العالمية الأولى، إلى توطيد اعتماد ألمانيا وصلتها بالاقتصاد الأمريكي.
أما من جهة أخرى فقد أدى عدم قدرة ألمانيا على الالتزام بشروط المعاهدة بسبب النقص الخانق في إيراداتها الوطنية في الفترة الفاصلة بين 1920 و1921 إلى وقوع اعتداءات من جانب دول مثل فرنسا وبلجيكيا الذين سارعوا لسبب غير مفهوم لاحتلال حوض الرور سنة 1923، وهو ما عكس حقيقة العداء الدبلوماسي الذي شنته الدول المهيمنة في الحرب العالمية الأولى ليشكل تحديات إضافية لجمهورية فايمار في ذلك الوقت.
كما تم الضغط على قادة الحكومة الألمانية لقبول معاهدة فرساي وهو ما وصفه غالبية الألمان بأنه “طعنة وجهت لألمانيا في الظهر” مطلقين على مسؤولي الدولة آنذاك اسم “مجرمو نوفمبر” (الشهر الذي تم خلاله توقيع هدنة الحرب العالمية الأولى سنة 1918).
يقول المفكر اليهودي “جورج شتاينر” أن المعاهدة فشلت في حل إشكالية تنفيذ العقاب المناسب ضد ألمانيا وتحقيق المصالحة لدولة ظلت قوة عظمى على الرغم من أربع سنوات من القتال المتواصل التي انتهت بهزيمتها عسكريا. إذ عمقت معاهدة فرساي أزمة فايمار بين عامي 1919 و 1923 وساعدت في حشد القوى السياسية المتطرفة في مواجهة حكومة “تفتقر إلى الشرعية الأخلاقية” في ذلك الوقت، وفقا للمؤرخ “ألان جون تايلور”.
الـKKK أو الكو كلوكس كلان.. ماذا تعرف عن أخطر جماعة إرهابية في أمريكا؟
تبعية ألمانيا للاقتصاد الأمريكي
في ضوء ذلك المأزق السياسي والاقتصادي اعتمدت الولايات المتحدة خطتي دوز ويونغ في عامي 1925 و 1929 بهدف انعاش القطاع الصناعي الألماني وخلق الثروة لتحريك النمو. ولكن على الرغم من أن هذا المخطط المالي نجح في تحقيق ااستقرار سياسي نسبي لحكومة فايمار إلا أنه تسبب في تبعية الاقتصاد الألماني للتمويل الأمريكي بشكل خطير وإشكالي.
استخدم “جوستاف شتريسمان”، المستشار الألماني آنذاك (1923)، الإعانات الأمريكية للقيام بإصلاحات مالية وتوفير مزايا الضمان الاجتماعي للشعب. وعلى الرغم من أن شتريسمان استطاع التفاوض بفاعلية مع جميع الأطراف لإرساء “العصر الذهبي” في البلاد خلال الفترة الفاصلة بين 1924 و1929 ونجح في إبقاء الأصوات الثورية منخفضة في تلك الآونة، إلا أنه لم يتعامل بكفاءة مع التحديات الصناعية والزراعية الخانقة في ذلك الوقت.
تأثير الكساد الأعظم على الولايات المتحدة
في أكتوبر 1929، كشفت سلسلة من الأحداث المشابهة لتأثيرات الدومينو والتي وقعت في جميع أنحاء العالم مدى هشاشة الجمهورية الأمريكية الإتحادية، خاصة بعد ان انغمست الولايات المتحدة في حالة من الانعزال مما تسبب في خلق فراغ اقتصادي وسياسي داخل الأسواق الأوروبية.
في الواقع، زاد الكساد الأكبر من عمق المشاكل الاقتصادية الموجودة، مما أنبأ بتقويض أسس المجتمع الأمريكي والألماني على حد السواء، إذ بلغت نسبة البطالة في الولايات المتحدة 25 بالمئة سنة 1932 وتجاوزت 30 بالمئة في ألمانيا.
اما من جهة أخرى فقد سجل الدخل القومي في كلا البلدين بين سنتي 1929 و1932 نسبة انخفاض قدرت ب39 بالمئة و40 بالمئة تباعا. وهذا دليل واضح على مدى تأثر الدولة الألمانية بانهيار الاقتصاد الأمريكي بسبب عنصر التبعية الذي تطور على مدى سنوات.
ومع ذلك فقد استنتج الكثيرون أن قادة حكومة فايمار فشلوا في الاستفادة من تجربة 1920-1923، إذ صرح المؤرخ “إيريك ويتز” أن “الكساد العظيم شكل الضربة القاضية… فلولاه لحضيت جمهورية فايمار بفرصة للنجاة من التضخم المالي الهائل الذي حصل عام 1923 وشكل عنصر تعطيل وإرباك غير مسبوق.”
تأثير الدومينو وانهيار الاقتصاد الألماني
كان للكساد الكبير تأثير قوي على مستويات معيشة الألمان. إذ تشير الأرقام إلى زيادة نسب البطالة من 1.5 مليون عاطل عن العمل في عام 1929 إلى ما يقرب من 6 ملايين عاطل في عام 1930. ولم تكن البنوك الألمانية قادرة على دعم العملاء بقروض، بينما اضطرت أكبر المؤسسات المالية للإغلاق مما أدى إلى أزمة مصرفية كبرى. أما من جهة أخرى فقد انهارت الصادرات في المقام الأول لأن الولايات المتحدة فرضت حواجز تجارية لحماية مصنعيها المحليين.
أصبح الفقر وسوء التغذية والإحباط جزءا من روتين الحياة في ألمانيا، مصحوبا بنقص حاد في الغذاء مما دفع الجماهير للاعتماد كليا على الوجبات التي توزعها الدولة. يقول الروائي “كريستوفر إشيروود”: “كان الشباب يستيقظون ليقاسوا ويلات يوم آخر فارغ بلا عمل يقضونه في اللهث وراء لقمة عيش ضئيلة من بيع أربطة الأحذية أوالتسول.”
تأثرت الزراعة أيضا وعانى المزارعون من عواقب الانخفاض الكبير في الطلب على منتجاتهم، إلى جانب الانخفاض الحاد في الإنتاج الصناعي بأكثر من 50 بالمئة مما أسفر عن ظهور موجة استقطاب سياسي وأيديولوجي حادة وميل الناخبين نحو اليسار المتطرف ومجموعات اليمين المتطرف.
حكموا الشوارع بقبضة نارية.. تعرّف على أعنف 10 زعماء مافيا عرفتهم أمريكا
شعور عام بالإحباط في ألمانيا وصعود الحزب النازي للسلطة
تقول الرسامة الألمانية اليهودية “ليا غرونديغ” أن “الفقر المدقع واليأس والقوانين التي تحكم الأزمة ولم تكن مفهومة للكثيرين جعل الناس أكثر قابلية للإيمان بالمعجزات، وهكذا بدأت الطوائف بالظهور من كل صوب وحدب.”
وبالتالي، وجد الخطاب المتطرف الذي انتجته جهات سياسية متطرفة مثل الحزب النازي أرضية خصبة لتوسيع رقعة قاعدته الانتخابية بشكل مفاجئ بعد الوعود الوافرة التي أغدق بها الشعب ملوحا بإجراءات فعالة وتعافي اقتصادي سريع.
أدت الضبابية السياسية والاقتصادية في تلك الفترة إلى إثارة موجة تطرف، وهو ما شكل عامل آخر لتسريع انهيار جمهورية فايمر. ولوحظت بوادر صعود شعبية هتلر والحزب النازي مع اندلاع الكساد الكبير في: “كل ما حولنا من أعراض تنذر بهذا الانهيار … وسط مزيج من الآراء السياسية الأنانية والمصالح الاقتصادية والصراعات الأيديولوجية”.
الانتخابات الديمقراطية والهيمنة النازية
كان الفكر السياسي المتطرف حاضرا بالفعل في ألمانيا خلال عشرينيات القرن الماضي ولكن في سياق الكساد الاقتصادي العارم سهل مهمة الحزب النازي وميليشيا “كتيبة العاصفة” التابعة لها في نشر الدعاية المناهضة للجمهورية. فمن المهم أن نلاحظ أن النازيين استغلوا نقاط الضعف النظامية التي شابت حكومة فايمار لتبرير الاستبداد كعلاج للخروج عن القانون.
أعاد هتلر تنظيم “حزب العمال الألماني” وأطلق عليه اسم “حزب العمال القومي الاشتراكي” أو “الحزب النازي” مستندا في ذلك إلى مخطط سياسي من 25 نقطة. ثم قاد التشكيل السياسي الجديد واستعد للانتخابات قبيل وقوع الكساد الكبير عام 1929 ليحصل على 12 مقعدا في الرايخستاغ (البرلمان الألماني).
في عام 1930 فاز الحزب النازي ب197 مقعدا في البرلمان وهو ما أثبت على نحو لا شك فيه أن الانهيار المالي في الولايات المتحدة كان من ضمن الأسباب الرئيسية في فتح الطريق بصورة شرعية أمام هتلر ليخطو واثقا نحو الخطوط الأمامية للسياسة الألمانية. وبالاستناد على تحاليل عديدة يمكن القول أن صعود الحزب النازي للسلطة لم يكن ممكنا أبدا لولا الكساد الكبير ونهاية العصر الذهبي لجمهورية فايمار.