الكسكسي.. طبق مغاربي مشترك أبدع وتفنن التونسيون في تحضيره

على مدى عقود، برعت الحاجة الزينة، المرأة التسعينية، في إعداد أكلة الكسكسي التونسية المعروفة، مستعينة بخبرتها الطويلة وبالوصفة التقليدية التي توارثتها عن والدتها منذ زمن طويل.

تجلس الحاجة الزينة أمام طاولة مزيّنة بمكونات طبق الكسكسي الذي ستعده لضيوفها، غير مبالية بحرارة الطقس والرطوبة المرتفعة التي تملأ المكان، ففي إعداد هذا الطبق وتقديمه لضيوفها بالطريقة المثلى وفي أبهى صورة وألذ مذاق، متعة لا تضاهيها أخرى بحسب تعبيرها.

تاريخ الكسكسي

الكسكسي، ويسمى أيضًا الكسكس، هو طبق مغاربي مشترك، يعود تاريخه إلى مئات السنين، يصنع أساسًا من القمح الصلب أو الشعير ويقدم بطرق ومكونات مختلفة، ويؤكل باليد أو الملعقة.

تجتمع النسوة في تونس لتحضير عولة الكسكسي بأنواعه
تجتمع النسوة في تونس لتحضير عولة الكسكسي بأنواعه

تونس، الجزائر، ليبيا، المغرب، موريتانيا، دول مغاربية خمسة، تشترك جميعها في هذا الموروث الغذائي ويفتخرون جميعًا بنسبته إليهم، رغم اختلافهم في طريقة تحضيره ومكوناته.

خلال اجتماع الدورة الخامسة عشرة (المنعقد بتاريخ 16 ديسمبر/كانون الأول 2020) للجنة الدولية الحكومية لصون التراث الثقافي غير المادي التابع لمنظمة الأمم المتحدة للثقافة والعلوم (اليونيسكو)، تم إدراج الكسكسي والمعارف الخاصة بإنتاجه واستهلاكه ضمن قائمة التراث اللامادي الإنساني لدول المغرب العربي الخمسة بعد سنة من تقديم الطلب في 2019.

أصل غير محسوم

معنى الكسكسي بحسب العالم المعجمي ابن دريد في كتابه “جمهرة اللغة” هو الطريقة التي تحضر بها حبوب القمح الصغيرة الخاصة بطبق الكسكسي، وبحسب مصادر عديدة، فإن أصل الكلمة أمازيغي، لكن التكوين الدقيق لها يشوبه بعض الغموض، وأن الأصل التاريخي للكسكسي يبقى غامضًا.

بالعودة للحاجة الزينة، طلب منها ضيوفها إعداد طبق الكسكسي بلحم الخروف، على طريقة الأعراس، ويسمى أيضًا بكسكسي العرس، إذ يمتاز هذا الطبق بزينته من بيض وحمص وزبيب وحلوى في بعض الأحيان.

طريقة تحضير الكسكسي

تقول الحاجة الزينة لنون بوست: “برعت في تحضير الكسكسي على الطريقة الساحلية التقليدية (في إشارة للمنطقة التي تسكنها) وهي طريقة تعتمد أساسًا على تتبيل اللحم مع إضافة زيت الزيتون والثوم والبصل والطماطم وتركها ترتاح قليلًا، قبل وضعهم جميعًا في القدر، دون تقليتها”.

بعد مزج المكونات مع بعضها البعض لتكون المرق، تسكب الحاجة الزينة السميد الخشن في وعاء خشبي متوسط الحجم، لتبدأ مرحلة التكسكيس، وهي مرحلة دقيقة، تقوم خلالها بسكب قليل من الملح وإضافة كميات متفاوتة من الماء لمزجها بالسميد قبل برم حباته، حتى تحصل في الأخير على حبات أكبر ورطبة من الكسكسي، تضعها في الكسكاس مع حبات قرنفل وقرفة لتطبخ ببخار المرق الخارج من المقفول.

يُعتبر الكسكسي بالقرنيط واحدا من الاختصاصات التونسية المشهورة
يُعتبر الكسكسي بالقرنيط واحدا من الاختصاصات التونسية المشهورة

والكسكاس هو إناء عادة ما يكون شكله أقرب للكروي، مثقوب أسفله، ليسمح للبخار الآتي من الإناء السفلي بالصعود إلى السميد المبروم، أما المقفول فهو قِدر خاص ذو فوهة مقاسها مطابق لقعر الكسكاس.

تعد طريقة الحاجة الزينة في تحضير سميد الكسكسي طريقة قديمة متعارف عليها بين النسوة، فقد كانت النسوة يجتمعن في منازلهن بعد موسم الحصاد للتكسكيس، وهو تجهيز مؤونة السنة من الكسكسي ثم تجفيفه لأيام تحت أشعة الشمس قبل حفظه في أماكن خاصة حفاظًا عليه من التسوس.

أنواع الكسكسي

إذا صنع السميد من الشعير يسمى ملثوت، وعندما تكون حبات الكسكسي خشنة وأكبر حجمًا من حبات الكسكسي العادي يسمى بركوكش ويطبخ البركوكش في الكسكاس بواسطة البخار مثل الكسكس العادي، وتشتهر به محافظتا قابس وقفصة في الجنوب التونسي.

بعد ربع ساعة من تفوير الكسكسي، تبدأ الحاجة الزينة في مرحلة التسقية، وهي المرحلة التي يتم خلالها إضافة المرق على سميد الكسكسي ومزجه للحصول على لون برتقالي مثالي، ثم تركه ليرتاح قليلًا قبل تزيينه باللحم والفلفل المقلي والبيض المسلوق والحمص والزبيب وتقديمه للضيوف.

يحتوي طبق الكسكسي على قيمة غذائية عالية، من بروتين وفيتامينات ومعادن ودهون وكالسيوم وحديد وكاربوهيدرات وغيرها.

طبق مغاربي ذو شهرة عالمية

يعد طبق الكسكسي واحدًا من أكثر الأطباق المغاربية التي نالت شهرة على مستوى العالم، فقد ساهمت الجاليات المغاربية خاصة في الدول الأوروبية، بالتعريف به، ليصبح وجبة مفضلة لكثير من الأوروبيين الذين يقصدون المطاعم المغاربية لتناوله.

والكسكسي أنواع عديدة، ولكل نوع وصفاته وبهاراته وطريقة تحضيره الخاصة، فنجد الكسكسي بالسمك والكسكسي بالخضراوات والكسكسي الحلو والكسكسي بالعصبان وكسكسي الشعير وكسكسي القمح وغيرها كثير من الأنواع.

في هذا السياق، يقول الشيف التونسي محمد علي الطالبي في حديثه لـ”نون بوست” إن طريقة تحضير الكسكسي في تونس تختلف من منطقة إلى أخرى، فنجد اختلافًا ملحوظًا بين كسكسي مناطق الشمال الذي يعتمد أساسًا على لحم الخروف وكسكسي الجنوب الذي يطبخ في كثير من المناطق بلحم الجمل والكسكسي الذي يُطبخ في المناطق الساحلية التي نلاحظ فيها حضورًا كبيرًا للأسماك في وصفات الكسكسي الذي تعده على غرار السردينة والقاروص والأخطبوط وغيرها.

وفي محافظتي باجة والكاف، يشتهر كسكسي البرزقان (بالضم وبالبكسر) كوجبة فاخرة تقدم في المناسبات وللضيوف الأعزاء، وهي نوع من الكسكسي المطبوخ مع السكر والزبدة والمكسرات والدقلة واللحم المطبوخ في إكليل الجبل والحليب.

يورث ولا يدرّس

وبحسب الشيف التونسي، فإن طريقة تحضير الكسكسي لا تدرّس، بل يمكن توارثه وتعلمه عن الأمهات والجدات واستلهام طرق تحضيره من الأعراس والمناسبات التونسية التي يُقدم فيها كطبق رئيسي في معظم الأحيان.

ويعدّ الشيف محمد علي الطالبي، أحد الطهاة التونسيين الذين تفننوا في تحضير أصناف متعددة من الكسكسي بمكونات متغيرة، على غرار الكسكسي بلحم الخروف والكسكسي بالأخطبوط والكسكسي بالسمك والكسكسي بالكلمار المحشي، وغيرها كثير، وقد وثق طريقة تحضيره لهذه الأكلات في الطبيعة الخلابة، في فيديوهات ينشرها دوريًا على قناته على اليوتيوب.

ورغم شعبية هذه الأكلة وانتشارها في كل البيوت التونسية منذ مئات السنين، فإن الأوضاع الاقتصادية في تونس حالت دون أن يتزين الكسكسي في كثير من المنازل، بالطريقة المثلى، فقد صار طبخ الكسكسي بلحم الخروف عند عدد كبير من العائلات مناسباتيًا، بسبب ارتفاع تكلفته وغلاء اللحوم.

المصدر: نون بوست

Adv

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى