بين مطرقة حقوق الإنسان وسندان الضغط الشعبي.. إعدام مع وقف التنفيذ في تونس

خاص -الموندو- مروى الجديدي: مترجمة صحفية- يعود تاريخ تنفيذ آخر حكم إعدام في تونس لسنة 1991 في حق ناصر الدامرجي، المعروف بكنية “سفاح نابل”، بعد ارتكابه سلسلة من الجرائم في حق أطفال وقصّر، وينسجم هذا التمشي مع التزام الدولة التونسية بمجموعة من المواثيق والمعاهدات الدولية التي تقطع مع الأحكام السّالبة لكرامة الأفراد وتؤسس لمبدأ عدم المساس بالحق في الحياة.

ومن هذا المنطلق، خيّرت السلطة التنفيذية التونسية تعليق عقوبة الإعدام في محاولة ضمنية منها لتفادي الصدام مع القوى الحقوقية الدولية والمحلية المنادية بإنهاء حقبة تشريعية بأكملها مؤيدة لآلية قصاص سالبة للحياة ومهينة للذات البشرية، حسب تعريف منظمة العفو الدولية.

بين مطرقة حقوق الإنسان وسندان الضغط الشعبي

شهد الوسط الحقوقي التونسي بُعيد سقوط نظام زين العابدين بن علي انتعاشة جعلت منه قوة ضغط لا يستهان بها، وهو ما فتح باب النقاش على مصراعيه في ما يخص ملفات حقوق الإنسان، وأفضى لنقاشات موسعة بين أطياف متعددة داخل المجتمع المدني حول محور الحقوق الأساسية كحق الحياة الذي شكّل نقطة التقاء بين شريحة واسعة من المنخرطين في منظومة الحق المدني.

في المقابل، واصلت الدولة تجاهل دعوات حقوقية متعالية لاتخاذ خطوات إيجابية نحو إلغاء عقوبة الإعدام، مشيحة بنظرها في نفس الوقت عن صرخات عائلات الضحايا المطالبة بالقصاص، إذ خيّرت  الدولة التونسية الوقوف على الهضبة، فلا هي بمنفّذة للعقوبة ولا بمانعة لإصدارها في المقام اللأول، مدفوعة في ذلك بهواجس وتخوفات  مقترنة بصورة تونس في الخارج كديمقراطية في طور البناء.

يشكّل غياب التكامل بين القانون الذي يخوّل للقاضي النطق بعقوبة الموت وسلط التنفيذ التي تؤجل تنفيذ الحكم (أو لا تنوي تنفيذه من الأساس) سببا محوريا في تكريس أزمة مجتمعية طرفاها الأساسيان هما عائلات الضحايا والمنادين بتنفيذ الأحكام المتراكمة عبر السنوات، من جهة، والشق الرافض لهذه العقوبة “الهمجية” حسب وصفهم،  من جهة أخرى.

في سياق متّصل، يلعب عمق الهوة بين ما تضمنته المجلة الجزائية من موجبات متعددة لعقوبة سلب الحياة وبين الوضعية الفعلية لمساجين يقبعون داخل أروقة الموت منذ سنوات وحتى عقود في بعض الحالات، يتجدد أملهم في تأجيل العقوبة أو النجاة منها مع كل يوم يمضي داخل الزنزانة، دورا أساسيا في تأجيج الخلاف حول هذا الموضوع الشائك.

مع وقف التنفيذ…

أُسِّس موقف الدولة الهلامي من ملف عقوبة الإعدام لتواجد فئة غامضة من المساجين الذين يتم تغييبهم تماما داخل المنظومة السجنية، فيقبعون أحياء بين جدران الزنزانة ولكنهم أموات في نظر القانون.

على صعيد آخر، يخوض نزلاء أروقة الموت في السجون التونسية تجربة مختلفة عن باقي السجناء، فالعقوبة السجنية القائمة على البعد التأديبي والردعي في مطلقها تأخذ صبغة أخرى بالنسبة لؤلئك الذين لفظهم المجتمع بشكل نهائي وحسم القضاء أمره على التخلص منهم إلى الأبد.

يُفضي إصدار حكم الإعدام ضمنيا إلى أن المشرّع خلص إلى استحالة إعادة تأهيل السجين، أي أن مرحلة السجن تكون وقتية إلى حين تحديد موعد التنفيذ، ولكن في ظل الوضعية الحالية، فإن فترة ما قبل إحلال العقوبة قد تمتد لعقود، يمكن خلالها أن يتوفّى السجين بشكل طبيعي أو بسبب ظروف خارجة عن سيطرة السلطات كالانتحار، حيث سجّلت منظمات حقوقية محاولات انتحار في صفوف هذه الفئة من المساجين الذين فقد بعضهم  عقله وخسر البعض الآخر ما تبقى من إنسانيته مع مرور كل يوم انتظار، حتى أنه يُخيّل له مع كل خطوة ثقيلة تقترب من الزنزانة ذلك “العشماوي” المتأصل في الذاكرة الشعبية قادما ليلف حبل المشنقة الخشن حول رقبته.

معضلة توسّع المشرع في تحديد نطاق العقوبة

بيّن رابح الخرايفي في كتابه “عقوبة الإعدام في تونس بين الإبقاء والإلغاء” أن القانون التونسي يتخذ مسارا توسعيا في تحديد إطار عقوبة الموت، إذ تحتوي المجلة الجزائية على 21 بابا لموجبات الإعدام، كما تضمّ مجلة المرافعات والعقوبات العسكرية أكثر من 30 جريمة يُعاقب عليها بالموت، وهو ما ينبئ بأن المسار التشريعي الذي أفرز هذا الكم من الأسباب التي تؤدي إلى حبل المشنقة سيواصل التوسع في استنباط الجرائم الموجبة لعقوبة سلب الحياة والتوسع إلى مجالات جنائية أخرى في المستقبل، دون مراعاة لحساسية الوضع والجدل الحاصل على خلفية وضعية مساجين الإعدام داخل أسوار السجون التونسية أو ازدواجية خطاب الدولة التونسية التي تروّج للعالم نجاح المسار الانتقالي وتتعاطى ببلادة مع ملف حساس من هذا القبيل.

أخيرا، فإنه من المرجح أن يحسم عامل الوقت الموضوع، فعندما تمسي السلطة التنفيذية سواء في المستقبل القريب أو البعيد عاجزة تماما عن رأب الخلل وخلق غطاء تمويهي آخر لصرف النظر عن المشكل كما يحصل حاليا، خصوصا مع تراكم الأحكام وتزايد أعداد المدانين الذين ينتظرون مصيرا مجهولا داخل الزنازين، سيصبح من المستحيل المضي قدما في تأجيل معالجة القضية بشكل فعلي والاستمرار في سياسة مسك العصا من المنتصف.

Adv

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى