فصل آخر من الصراع المعلن بين قصر قرطاج ومونبليزير، أُزيح الستار عنه يوم أمس الإربعاء 15 جويلية 2020، بتقديم رئيس الحكومة إلياس الفخفاخ استقالته من ترؤس الحكومة للرئيس قيس سعيّد الذي طلب منه ذلك، واستباقا لسحب البرلمان الثقة من حكومته على إثر نجاح بعض الكتل البرلمانية في تقديم لائحة سحب ثقة منه.
بعد دقائق قليلة من انتشار خبر تقديم الفخفاخ لاستقالته، انطلق جمهورا قيّس سعيّد وحركة النهضة في إعلان الانتصار من جانب واحد، وكأنّ ما حدث البارحة يصبّ في مصلحة تونس الجريحة، تونس التي صار الانفجار الاجتماعي يهدّدها أقرب من أي وقت مضى، مثلما تؤكد ذلك المؤشرات المتواترة.
بعيدا عن عقليّة جمهوري حركة النهضة وقيّس سعيّد، الذين يتبنّيان عقيدة “الأولتراس” في تعصّبهم للأشخاص، سنحاول في هذا المقال المقتضب، تقديم قراءة متأنّية بعيدة عن الاصطفاف والتخندق والتعصّب الذي ضرب الحياة السياسية في تونس في مقتل، وجعلها مسمومة، نادرا من خرج منها معافى من مخلّفات سمومها.
بداية، صار مؤكدا بما لا يدع مجالا للشك، أن الصراع بين راشد الغنوشي وقيس سعيّد صار علنيا وعلى أشدّه، وانتقل من مرحلة الخمول إلى مرحلة أوجه النشاط، وأسباب ذلك كثيرة، ليس هذا مجال ذكرها، ولكن استقالة الفخفاخ عرّت المستور وكشفت عداء كبيرا بين قرطاج ومونبليزير.
استقالة إلياس الفخفاخ التي جاءت بعد أقل من 6 أشهر من تكليفه بتشكيل حكومة خاضت حربا شعواء بين مكوناتها منذ تشكيلها، كانت مرّة علقما بالنسبة للرئيس قيس سعيد، فهو من اختاره من بين أكثر من مرشّح رغم المعارضة الكبيرة من حركة النهضة، التي اختارت وقتها الانحناء للعاصفة خوفا من حل البرلمان وإعادة الانتخابات التشريعية، لكنها كانت في السياق ذاته، تعلم تماما، أن حكومة الفخفاخ لن تدوم طويلا، بتعلّة عدم أحقّية الرجل بهذا المنصب وعدم قدرته على تجميع مكونات الائتلاف الحاكم المتناحرين سياسيا فيما بينهم.
إذن، كانت استقالة الفخفاخ الاستباقية خوفا من سحب الثقة منه في البرلمان، ضربة موجعة لقيس سعيد، فالرجل المشتبه بفساده وتضارب مصالحه، كان هو من اختاره وراهن عليه، ولكن سرعان ما أثبت فشله وخرج بفضيحة لا يمكن محوها حتى وإن قال القضاء والأجهزة الرقابية كلمتهم الأخيرة وبرّؤوه من هذه تهمة الفساد وتضارب المصالح، كما أن عودة المبادرة لرئيس الجمهورية مرّة أخرى بالتزامن مع معاداته لحركة النهضة، ستجعله في موقت لا يحسد عليه، خاصة وأن سعيّد، صار متيقّنا من أن رئيس الحكومة القادم، لن ينجح في إدارة مقاليد الحكم بدون مباركة ورضاء شيخ مونبليزير.
يقول أنصار قيس سعيّد، إن الأخير سحب البساط من تحت أقدام النهضة بطلبه الاستقالة من إلياس الفخفاخ حتى تعود إليه المبادرة بتعيين شخصية بديلة تترأس الحكومة، قبل أن يتم سحب الثقة من الفخفاخ في البرلمان وتعود المبادرة إلى النهضة بصفتها الحزب الفائز بالانتخابات التشريعية، في وقت تتعارض فيه هذه القراءة مع كل المؤشرات والحقائق المعلومة، والتي تؤكد أن حركة النهضة تعلّمت الدرس من تكليفها لحبيب الجملي وإسقاط حكومته أمام البرلمان بسبب الخصومة السياسية مع حزبي التيار الديمقراطي وحركة الشعب، ولكون النهضة تعلم تماما أيضا، أنها لا يمكنها حكم تونس على الأقل خلال السنوات الأربع المقبلة.
اليوم وأمام عودة المبادرة لقيس سعيد، صارت النهضة حرّة من كل الضغوطات الداخلية والخارجية، التي عادت مجددا لتسلّط على الرئيس التونسي الذي فشل في المحافظة على شعبيّته الواسعة، بسبب الأخطاء السياسية والدبلوماسية الكبيرة التي ارتكبها ولا يزال، بالإضافة لتورّطه في تعيين شخصية سياسية أثبتت فشلا ذريعا وصبيانية ومراهقة سياسية منقطعة النظير لا سيّما بعد إقالته لوزراء النهضة في حكومته، ناهيك عن شبهات فساد وتضارب مصالح تلاحقه وبعض أعضاء حكومته منذ تعيينهم.
كل هذا وغيره، يكشف نجاح حركة النهضة في التخلّص من عبئ التعيين القادم، وهي من ضربت عصفورين بحجر واحد، الأول بإجبار الفخفاخ الذي تحدّاها وقال لها يبطى شوية على الاستقالة، والثاني، برمي الكرة في ملعب قيّس سعيّد ثمّ الضغط عليه لتعيين الشخصية الأقرب لمزاج رئيسها راشد الغنوشي لخلافة الفخفاخ، لأن تجاوز مزاج “الشيخ التكتاك”، لن يزيد قيّس سعيّد ومن سيعيّنه إلا متاعب هما في غنى عنها، أمام أوضاع اجتماعية واقتصادية أقلّ ما يقلّ عنها، إنها كارثية.
This post was published on 2020-07-16 11:21