تقارير

طهاة يشقون في النعيم.. ما لا تعرفه عن دليل ميشلان لتقييم المطاعم

Adv

مروى الجديدي

مترجمة ومحررة صحفية تونسية

انطلقت فكرة انشاء دليل ميشلان في مطلع القرن العشرين عندما قرر الأخوان أندريه وإدوارد ميشلان ابتكار طريقة ناجعة للترويج لشركة الإطارات التي يملكانها وتشجيع اصحاب الأموال على اقتناء السيارات للقيام برحلات ترفيهية على طرقات فرنسا الفسيحة.

تم إصدار أول دليل سياحي بتوقيع الأخوين ميشلان سنة 1900 بهدف إرشاد مستعملي الطريق إلى الفنادق والمطاعم التي تقدم خدمات جيدة وبأسعار منصفة، فضلا عن أماكن التزود بالوقود وورشات تصليح السيارات التي تعمل على مدار السنة.

سرعان ما تحول دليل ميشلان من كتيب توجيهي مخصص لسائقي السيارات إلى مرجع يعتمد نظام النجوم في تقييم معايير الجودة في عالم الطبخ والضيافة، وذلك من خلال الإشارة في 27 إصدار سنوي لأسماء أفضل المطاعم والفنادق في أكثر من 23 دولة.

دليل ميشلان لسنة 1900 (مواقع التواصل)

نجوم ميشلان الثمينة

يمنح دليل ميشلان المطاعم المتميزة مجموعة من النجوم وذلك على مدى حيز زمني معين. ويعتمد إسناد نجمات ميشلان على قدرة المطعم على الحفاظ على مستوى معين من التميز والحرفية.

يعتمد خبراء دليل ميشلان على معايير عدة من أهمها الجوانب المتعلقة بخدمة زبائن المطعم وفترة الانتظار للحصول على الطبق المطلوب ومهنية طاقم الضيافة، فضلا عن نوعية الطعام وسعره ودرجة الابتكار في إعداده وتقديمه.

كما يعنى مفتشو ميشلان المنتشرون ميدانيا بتذوق الأطعمة واختبار التجربة الترفيهية التي يقدمها المطعم لزبائنه بشكل عام. ومن هذا المنطلق ارتبطت نجمات ميشلان بمعايير الحرفية العالية في تقديم الأطباق والمخيلة الشاسعة في طبخها.

يتم منح النجمات على هذه الشاكلة: نجمة واحدة تعني “مطعم جيد جدا ويستحق تذوق طعامه إذا قادتك الظروف إلى مكان تواجده”، بينما يعني الحصول على نجمتين أن المطعم “ممتاز ويستحق أن تخطط لزيارته أثناء رحلتك”، أما إذا حصل المطعم على نجمات ميشلان الثلاث فهذا يعني أنه “مكان استثنائي ويستحق زيارة خاصة على شرفه”. وغالبا ما تكون أسعار الأطباق المقدمة في هذه الأماكن الفاخرة مرتفعة.

طبق حائز على نجمتي ميشلان (مواقع التواصل)

عالم الطبخ الرفيع.. عمل دؤوب لإرضاء المتذوق

على مدى سنوات عدة أصبح دليل ميشلان مرجعا لرواد المطاعم الراقية ومتذوقي الأطعمة الفريدة، وليس ذلك فحسب، فقد تاق الطهاة حول العالم للحصول على نجمات ميشلان كدليل على حرفيتهم وكعربون عرفان لمهارتهم وجهودهم داخل المطابخ الحارة على مدار الساعة في حين يمضي الآخرون أوقات ممتعة في قاعات الأكل المترفة.

تقع مهمة ابتكار الأطباق الفريدة على عاتق الشيف (كبير الطهاة)، وهو ما يحتم عليه أن يؤمن لمطبخه المكونات التي يصعب توفيرها بشكل دائم وحتى النادرة منها لينال ثناء مفتشي ميشلان.

وفي هذا السياق يصبح الطاهي مطالبا بتكوين علاقات وطيدة مع المزارعين المحليين وبائعي الدواجن واللحوم والأجبان وأصحاب الأفران الذين تتوفر في منتجاتهم معايير الجودة، حتى يتسنى له ضمان مذاق ورونق يليق بزائري المطاعم التي يمنحها دليل ميشلان نجماته الثمينة.

غوردون رامزي الطاهي البريطاني الشهير والحائز على نجمات ميشلان (مواقع التواصل)

أما من جهة أخرى، فقد أصبح من الضروري لمالكي المطاعم من الطهاة الذين يطمحون اليوم لنيل ثقة دليل ميشلان أن يحققوا معادلة صعبة تتمثل في إدارة مشاريعهم باحترافية ومواصلة الإبداع في تحضير الطعام لنيل إعجاب النقاد والمفتشين، وهو ما يسبب لهم ضغطا كبيرا.

علامة ترف أم عنوان شقاء؟

يمكن لعالم المأكولات الراقية أن يكون قاسي ومحبط، إذ أن هامش النجاح والفشل موصول بخيط رفيع يمكن قطعه أو وصله بتدوينة لناقد مشهور أو ملاحظة يكتبها احد مفتشي ميشلان في دفتره.

على مدى العقدين الماضيين أعاد ما لا يقل عن 12 شيف مشهور، بما في ذلك أسماء مثل “ماركو بيير وايت” و”ألان سيندرينز”، نجمات ميشلان التي تحصلوا عليها أو قاموا بإغلاق مطاعمهم بعد تعرضهم لضغوطات نفسية جمة للحفاظ على تقييماتهم العالية وإرضاء مفتشي ميشلان المتخفّين.

يستشهد الطهاة غالبا عندما يقررون تعليق مشاريعهم بالتكلفة العالية لإدارة مطعم من الدرجة الأولى، والتي تشمل توظيف طاقم محترف واستخدام منتجات عالية الجودة في طبخ الأطباق، فضلا عن توقعات الزبائن وطلباتهم المبالغ فيها في بعض الأحيان.

وفي الأثناء، تحدّث بعض القائمين على هذه الأماكن الراقية عن فشلهم في تحقيق معادلة ربحية تقيهم شر الإفلاس وتدر عليهم ما كانوا يطمحون له من أرباح.

صرّح الكثير من الطهاة المتخلين عن نجماتهم أنه بعيدا عن أضواء ميشلان أصبح بإمكانهم تقديم خدمات في متناول زبائن ينتمون لكل الفئات وبأسعار معقولة، بالإضافة لإمكانية الاستغناء عن  قواعد اللباس الإلزامية لمرتادي المطعم. اما الأهم من ذلك، حسب رأيهم، هو توفر مساحة مناسبة للإبداع والابتكار دون الحاجة لإثارة إعجاب النقاد المتعجرفين.

يقول كبير طهاة مطعم “أو زارم دو فرانس” (في أحضان فرنسا) الشيف “فيليب غايرتنر”: “تثير نجمة ميشلان خوف الكثيرين، فعندما تخليت عنها استطعت أن أجذب زبائن جدد لتذوق طعامي.”

أما في آسيا وتحديدا في هونغ كونغ، عانت أكشاك الباعة المتجولين والمطاعم الصغيرة من “لعنة نجمة ميشلان” بعد أن تم التعرف عليها من قبل سفراء الدليل الفرنسي الشهير. إذ شهدت أسعار الكراء ارتفاعا غير مسبوق بعد أن تحصلت هذه المطاعم الشعبية على نجمة ميشلان، مما أجبر أصحابها على الانتقال.

كما اشتكى بعض الطهاة هناك من الإرهاق الذي تسببت فيه خدمة الحشود المتوافدة لتجربة المأكولات، دون أن يتمكن هؤلاء من الترفيع في الأسعار خوفا من خسارة النجمة أو تنفير زبائنهم الأوفياء.

كشك لتحضير نودلز الدجاح بالصلصة الحارة في سنغفورة حائز على نجمة ميشلان (مواقع التواصل)

طهاة ينتحرون و اتهامات تطال دليل ميشلان

أقدم الشيف الفرنسي الشهير “برنار لوازو” على الانتحار سنة 2003 عن سن لم يتجاوز 52 سنة، بعد أن ترامى إلى مسامعه أن مطعمه “لا كوت دور” (ساحل الذهب) مهدد بفقدان أحد نجمات ميشلان الثلاث التي تحصل عليها.

وقبيل الحادثة، أخبر الشيف لوازو، الحاصل على وسام الاستحقاق الوطني على ما قدمه من إضافات نوعية للمطبخ الفرنسي والعالمي، أحد زملائه بأنه سينهي حياته إذا فقد نجمة.

على مدى السنوات الموالية وقعت حوادث مشابهة وقع ضحيتها بعض الطهاة الذين انهاروا تحت وطأة الضغط المسلط عليهم، ففي سنة 2016 عثر على الشيف “بونوا فيولييه” ميتا في منزله ذات يوم أحد، قبيل إصدار دليل ميشلان لتلك السنة. وعلى الرغم من أن موته سبب صدمة في أوساط الطبخ الراقي، إلا أن الكثير من الأصوات تعالت متهمة دليل ميشلان صراحة بلعب دور ضمني في موت الطاهي ذائع الصيت.

يشار هنا إلى أن مأساة انتحار الشيف السويسري، كانت قد أثارت لغطا كبيرا حول دور التقييمات الدورية لدليل ميشلان وغيره من الإصدارات المخصصة لهذا الغرض، في تفاقم ظاهرة إغلاق المطاعم الفاخرة والتسبب في تدهور الصحة النفسية للعاملين في هذا المجال.

Adv

This post was published on 2020-07-09 13:00