أطلس تشريحي ثلاثي الأبعاد للجسم البشري.. ماذا تعرف عن مشروع الإنسان المرئي؟
تحتوي المكتبة الوطنية للطب في ولاية ماريلاند بالولايات المتحدة الأمريكية على أضخم مجموعة من المراجع الطبية في العالم. ولكن المكتبة على ضخامتها كانت تفتقر لنموذج حاسوبي شامل وتفصيلي لجثة بشرية مشرحة.
من هنا ولد مشروع “الإنسان المرئي” سنة 1988، بعد أن فاز الدكتور فيكتور إم.سبيتزر، أستاذ البيولوجية البنيوية بمنحة بحثية بقيمة 1,4 مليون دولار من معاهد الصحة الوطنية الأمريكية ليبدأ رحلة البحث عن متبرعين يستجيبون لمتطلبات هذا المشروع البحثي الثوري.
لتحقيق هذه المهمة الدقيقة، كان على فريق عمل المشروع ابتكار تقنية تشريحية معقدة تضمن لهم الحصول على أجزاء واضحة لكل أعضاء الجسم، لذلك قرروا تجميد أنسجة الجثة على درجة عالية من البرودة (70 درجة تحت الصفر) لتصبح في صلابة العظام البشرية.
بعد إتمام مرحلة التجميد بنجاح، تصبح الجثة جاهزة للتقطيع، وهو ما يخول لمصمم المشروع رفقة مساعديه تقسيم الأعضاء البشرية المجمدة لشرائح دقيقة ومتساوية، ثم طحن كل جزء يراد تصويره بشكل تدريجي ومتواتر على فترات منتظمة للحصول على أرشيف صور تفصيلي، تتم رقمنته في مرحلة لاحقة.
رقمنة الجسم البشري
كانت البداية مع جوزيف جيرنيغان الذي قرر التبرع بجثته قبيل تنفيذ حكم الاعدام ضده في الخامس من شهر أوت/أغسطس سنة 1993، حيث لم يكن لدى جيرنيغان أدنى فكرة أن جسمه سيصبح جزءا من أهم مراجع علم التشريح في القرن العشرين.
قام الدكتور سبيتزر صحبة زميله ديفيد ويتلوك بقطع جثة جيرنيغان إلى 1870 شريحة بسمك واحد سنتيمتر لكل شريحة، ثم تم تصوير هذه الطبقات مقطعيا باستعمال الاشعة السينية والرنين المغناطيسي، لتستمر عملية رقمنة الصور إثر ذلك، على مدى ستة أشهر تحول بعدها جثمان جيرنيغان لنموذج حاسوبي مفصل وفريد من نوعه.
تكررت التجربة مع جثة ثانية تعود لامرأة توفيت منذ عقدين من الزمن، إذ لم يعرف الكثير عن هويتها التي بقيت مجهولة حتى اليوم. كل ما تم كشفه عن حياة هذه المتبرعة هو أنها ربة منزل تقطن في ولاية ماريلاند الأمريكية، كانت قد تعرضت لنوبة قلبية أودت بحياتها عن سن ناهز 59 سنة.
فور حصول الدكتور سبيتزر وفريق عمله على موافقة زوج المتوفية، تم اتباع البروتوكول المتفق عليه ليحصلوا في النهاية على جثة رقمية انطلاقا من 5000 شريحة عضوية مقطوعة بعناية.
جثة سوزان بوتر الخالدة
عندما التقى الدكتور سبيتزر بسوزان بوتر سنة 2000، كانت هذه الأخيرة قد خضعت لما يفوق 25 عملية جراحية وتم تشخيص مرضها بسرطان الميلانوما وسرطان الثدي والسكري. وهو ما جعل الفريق الطبي يتردد في ضمها للبرنامج كمتبرعة.
شكلت مشاركة بوتر في مشروع الإنسان المرئي محطة فارقة في مسيرة وتوجه المشروع الذي كان حتى تلك اللحظة يرتكز على تشريح وتصوير جثث لبشر يتمتعون بصحة جيدة. وهو ما جعل ناشيونال جيوغرافيك تقوم على مدار ما يقارب عقدين من الزمن بتوثيق قصة السيدة بوتر والدكتور سبيتزر.
بعد وفاة بوتر سنة 2015 جراء مرض الالتهاب الرئوي عن سن ناهز 87 سنة، قام الباحثون بتجميد الجثة على وجه السرعة. وبعد مرور سنتين شرع الدكتور سبيتزر صحبة اثنين من مساعديه في تجزئة الجثمان إلى أربعة أقسام، ثم قاموا بطحنه إلى 27 ألف شريحة بسمك 63 ميكرومتر ليتمكنوا على مدى شهرين من إخضاع كل شريحة منفردة للمسح الضوئي.
أطلس تشريحي ثلاثي الأبعاد
نظرا للتطور الملحوظ الذي شهدته التقنية المستخدمة في نشر طبقات الجسم على مدى سنوات من البحث والتجارب، فإن عملية التقاط الصور ومسحها بالأشعة السينية أخذت منحى متناهي الإحكام.
وفي الأثناء تمكن الدكتور سبيتزر وزملاؤه من الحصول على بيانات مرئية عالية الدقة، مما سهل عليهم عملية تنظيمها بشكل متسلسل لتمكين العموم من القيام بجولة افتراضية غير مسبوقة داخل الجسم البشري.
يعتبر تجميع الصور جزءا صغير من المشروع ككل، إذ أن الصعوبة تكمن في تعريف كل جزء من جثة المتبرع. ولكن عندما سيتم حفظ كل بيانات التشريح ودمجها مع المعطيات التي جمعتها ناشيونال جيوغرافيك عن سوزان بوتر على مدى 15 سنة من التوثيق الدوري لمجريات حياتها سيتمكن طلبة الطب من معاينة الجثة بشكل تفاعلي بالتوازي مع خلفيتها النفسية والاجتماعية.
لم يتوقف الدكتور سبيتزر عند هذا الحد، فهو يقوم حاليا بتطوير طرق لمحاكاة خلايا الجسم الحية، إذ يقول معلقا على الفكرة: “لا يوجد مبرر للاحتفاظ بجثة افتراضية ما لم نعدها للحياة. نحن بحاجة لتطوير نموذج تشريحي يمكنه أن يرى ويتحرك ويستجيب لما تطلبه منه. أن يكون الجسد الافتراضي قادرا على الشعور واللمس والرؤية هو أمر يمكن تحقيقه اليوم”.