أثار قرار الرئيس الفلسطيني محمود عباس بتحلل السلطة الفلسطينية من كل الاتفاقات والتفاهمات مع الحكومتين الأمريكية والإسرائيلية ردود فعل متباينة مال العديد منها إلى التشكيك بجدواها وبأنها ليست إلا تكرارا لما سبقها من قرارات لها نفس الطابع والبعد، دون الأخذ بنظر الاعتبار لضرورة التمييز بين النص وسياقه، وبأن النسبة الكمية لمكونات أي خطاب تكون أساسا بمقامه قبل أي شيء آخر.
فالرئيس عباس يدرك أكثر من غيره عميق الإدراك أن مجرد التلويح الأمريكي الإسرائيلي فقط باحتمال الإقدام على ضم المناطق الحدودية على طوال خط نهر الأردن بالإضافة إلى المستوطنات، ليس إلا تحيلا يطبخ الآن بين هذين الطرفين للإتيان على آخر ما تبقى من استحقاقات لعملية سلام استمرت لأكثر من عشرين عاما، فيما لم يكن مقدرا لها أن تزيد عن خمس سنوات، وأنهما بمثل هذه التلويح إنما يمهدان للقضاء نهائيا على حل الدولتين وينهيان حلما فلسطينيا لا يتجاوز الحد الأدنى لما تتمتع به بقية شعوب الأرض.
أبو مازن، يدرك أيضا كما لا يدرك غيره أن التهديد بالذهاب للتصعيد بخيارات من ذات المستوى المتقدم هي من بين الخيارات الأكثر ردعا وإعادة لوعي ذوي النزعات المغامرة والطائشة، حيث أنه يبعث برسالة شديدة اللهجة إلى دوائر صنع القرار في النظام الدولي مفادها أن لحظة الغفلة في قيلولة فصل كورونا الملتهب، قد يكلُف العالم مخاطر اندلاع حريق هائل ستكون شرارة اشتعاله أسهل من المتصور في ظل ما يحيط بالنظام الاقتصادي العالمي المتأزّم من تهديدات جادة وقودها الانهيار المتسارع لعديد الطبقات الاجتماعية عبر العالم.
فمحمود عباس الذي روّض بدأب وإصرار لا يلينان وعلى امتداد سنوات الصراع في ظل خطاب قومي متعالي النبرة، المارد المتحفز في الوعي الفلسطيني للاستمرار والذهاب بالحرب إلى نهايتها، وأيقظ فيه قوة إمكانية انتصار العقل والوعي به إلى جانب إجبار عدوه على مغادرة مربع قوته القائمة على ثقافة القتل والموت ولو إلى حين، ومنحه فرصة الانعتاق من عمى عنجهية القوة التي لن تقود أجياله القادمة إلا إلى مزيد من الدماء وإعادة إحياء ومعانقة تجربة التشرد والضياع والانكفاء على الذات ومعايشة مشاعر الرفض ونبذ الآخرين له، وتجريب لغة السلام وبناء نموذج للعيش المشترك.
محمود عباس روّض بدأب وإصرار لا يلينان وعلى امتداد سنوات الصراع في ظل خطاب قومي متعالي النبرة، المارد المتحفز في الوعي الفلسطيني للاستمرار والذهاب بالحرب إلى نهاياتها
الرئيس الذي فعل كل هذا، يعلم أنه بقراره هذا إنما قام بإطلاق الرصاصة الأخيرة على تجربة استنزفت أكثر مما تستحق من الوقت وأنه يحاول بهذا إعادة الصراع إلى حاضنته الدولية قبل انفتاح أبواب الجحيم، حيث لن يقبل الشعب بأقل من حقوقه التي أقرتها له الشرعية الدولية.
وعلى الجانب الآخر مما يشهده العالم الآن وحيث أن مخاطر الارتدادات الاقتصادية لجائحة كورونا أشد إيلاما وتهديدا للسلم الاجتماعي من الوباء نفسه، وأنها هي التي تدفع دول العالم الآن للمجازفة بإعادة فتح الأنشطة الاقتصادية قبل التوصل إلى علاجات ولقاحات منظورة، وأن فكرة الموت بالوباء ستكون أضيق نطاق من الموت جوعا وأقل خطرا مما قد يسببه الارتفاع بنسبة الاضطرابات المتوقعة جراء ذلك، فإن تهديد استقرار مناخ العودة الاقتصادية هذه بمزيد من الحروب والتوترات الناجم عن الشعور باليأس والحيف ستكون أشد خطرا من الجائحة وأنها ستضاعف من مخاطر ارتداداتها الاقتصادية.
أبو مازن الذي أتقن خوض غمار محاولة عملية السلام ورافقها أكثر من مرة إلى حدود الهاوية قبل أن يعود أدراجه محكوما بالتزام مطلق بشرعية الحق الفلسطيني، فإنه اليوم وفي سياق مغاير لما سبقه، يلقي بقراره هذا وقف التفاهمات والاتفاقات، بصخرة ضخمة في بركة مياه العقل اليميني لقادة واشنطن وتل أبيب الآسنة، ويحذر العالم في توقيت حساس ودقيق إلى ضرورة الاختيار بين معالجة كورونا العقل الأمريكي الإسرائيلي وبين الذهاب إلى غياهب مجهول يقف العالم اليوم على حافته.
This post was published on 2020-05-21 14:58