تسبّب النفط في تطور الموارد المالية لكبرى الدول التي وُجد فيها
الذهب الأسود ، يطلق هذا الاسم على النفط الذي بدأ اكتشافه في العصر الحديث سنة 1853 لتتغير بذلك ملامح الاقتصاد العالمي بظهور أحد أهمّ مصادر المال في العالم والذي تسبّب في تطور الموارد المالية لكبرى الدول التي وُجد فيها وللدول التي استفادت من الصناعات المرتبطة به ولكنه خلق حروبا جديدة يمكن وصفها “بحروب الذهب الأسود” لاستئثار النصيب الأكبر منه ماليا وصناعيا وسياسيا لتتنافس القوى الكبرى على نفوذ واسع عليه وتكوّن تحالفات وفق مصالحها هددت ولاتزال السلم العالمي ليصبح نعمة لدى شعوب ونقمة عند أخرى لما خلفته الصراعات السياسية والعسكرية من تأثيرات كبيرة على حياة عشرات الملايين من البشر .
تتعدد الدراسات والبحوث حول احتياطيات النفط العالمية ويتأتى هذا الاختلاف نظرا لانعكاسات ذلك على الوضع المالي لكبرى الدول المنتجة والمستهلكة للنفط، حيث تراقب البورصات العالمية كافة الجوانب المتعلقة بالإنتاج والاستهلاك والاستشراف المتعلق بمستقبل الطاقة العالمي، وفي أحدث الدراسات التي أصدرتها منظمة “رايستاد” المستقلة لأبحاث النفط سنة 2016 بعد دراسة 60 ألف حقل نفطي حول العالم خلال 3 سنوات، فإن احتياطي النفط العالمي القابل للاستخراج يبلغ 2.1 تريليون برميل ما يكفي العالم لسبعين سنة قادمة على أقصى تقدير بالنظر لحجم الاستهلاك العالمي الذي بلغ 96.92 مليون برميل في 2016 حسب أرقام إدارة معلومات الطاقة الأمريكية .
تعد منطقة الشرق الأوسط من أبرز المناطق الثرية بالنفط في العالم وارتبطت قوتها الاقتصادية الحالية مع سلسلة الاكتشافات التي بدأت من إيران في 1901 ثم العراق سنة 1927 والبحرين سنة 1932، لتتالى سلسلة الاكتشافات في المملكة العربية السعودية وقطر والإمارات العربية المتحدة لتصبح المنطقة محل أطماع متزايدة من القوى العالمية التي تمتلك صناعات متطورة وترسانة عسكرية تريد استغلال تلك الموارد الطبيعية وعائداتها المالية لدفع اقتصاداتها إلى الأمام، ما جعل التنافس بين الشركات الأمريكية والروسية على أشدّه خاصّة في مرحلة الحرب الباردة رغم امتلاكهما لإنتاج كبير واحتياطات ضخمة، حيث وضعت منظمة “رايستاد” الولايات المتحدة في المرتبة الأولى باحتياطي يبلغ 264 مليار برميل نفط احتياطي، مقارنة بـ256 مليار برميل لروسيا، و212 مليارا لدى المملكة العربية السعودية.
هذه الموارد النفطية، جعلت الاهتمام العالمي يتركّز على المنطقة حيث نشرت فرنسا وبريطانيا وروسيا والولايات المتحدة قواعد عسكرية في دول المنطقة لكن الثقل الأمريكي بقي الأبرز وبدأ منذ ثمانينات القرن الماضي وتعزز بعد حرب الخليج الثانية بين الكويت والعراق سنة 1991 والتي استغلتها الولايات المتحدة للتواجد في قطر والبحرين والإمارات العربية المتحدة وسلطنة عمان والمملكة العربية السعودية، من خلال نشر أساطيلها البحرية ما مكّنها من غزو العراق في 2003 انطلاقا من الأراضي الخليجية ومياهها وجوّها.
صنفت منظمة “باركليز” أغنى عشر دول تملك احتياطا للنفط فحلّت ضمن القائمة المملكة العربية السعودية في المرتبة الثانية بـ 268 مليار برميل وإيران في المرتبة الرابعة بـ 157 مليار برميل والعراق خامسا بـ 140 مليار برميل والكويت سادسا بـ 104 مليار برميل والإمارات العربية المتحدة بـ 97 مليار برميل ما يشير إلى أن مستقبل الطاقة في العالم يرتبط أساسا بهذه الدول وهو ما يفسر التسابق الدولي لعقد التحالفات السياسية والعسكرية والاتفاقيات الاقتصادية معها خصوصا بين الولايات المتحدة والسعودية اللذين وقعا عقود تعاون بقيمة 400 مليار دولار في شهر ماي 2017.
تصاعد الخلافات بين المملكة العربية السعودية وإيران، كان قد ترجمها هجوم جماعة الحوثي اليمنية المدعومة من إيران على مؤسسة أرامكو السعودية العملاقة ما تسبب في تراجع إنتاج المملكة للنصف وتأثر 5 % من الإنتاج العالمي، الأمر الذي دفع الولايات المتحدة في أكتوبر 2019 لإرسال 3000 جندي على الأرض بناء على طلب سعودي ونشر سرب طائرات لمراقبة المجال الجوي الخليجي وحركة الملاحة البحرية في المنطقة.
هذه المخاوف على السلم العالمي من انفجار وشيك في الشرق الأوسط، تعززت بهجوم عسكري على ناقلتي نفط قبالة بحر عمان في شهر جوان 2019، ما تسبب في تنامي المخاوف العالمية من اندلاع اشتباك مباشر بين الولايات المتحدة وإيران وتبادل للاتهامات، لتتصاعد المخاوف مجددا بعد تفجير ناقلة نفط إيرانية في 12 أكتوبر 2019 وتوعّد إيران بالردّ على ما سمّتها بالاستفزازات الأمريكية والسعودية.
في سياق متّصل، عزز الخلاف بين دول المنطقة الخليجية وإيران المخاوف من تأثر الأسواق العالمية جراء الصراع الموجود على مضيق هرمز الاستراتيجي بينهما والذي يمر به خمس الإنتاج العالمي يوميا بحوالي 17.5 مليون برميل يوميا، وهو إنتاج المملكة والعراق والكويت وإيران التي تواجه عقوبات أمريكية اقتصادية على إنتاجها النفطي اليومي المقدر بـ 2.19 مليون برميل يوميا.
غير بعيد عن الدول الخليجية، تعتبر ليبيا من أبرز الدول المنتجة للنفط بإنتاج يومي يقدر بمليون ومائتي ألف برميل واحتياطي بـ 48 مليار برميل هو الأعلى في إفريقيا حيث حلّت قبل نيجيريا حسب أرقام منظمة “باركليز”، لتصبح بذلك ضمن أهداف شركات النفط العالمية ومن ورائها الخطط السياسية لنيل نصيب أكبر من الحصة المالية والاقتصادية واستغلال الفوضى التي تعيشها البلاد وتغذيها دول مثل مصر والإمارات العربية المتحدة وفرنسا التي دعمت هجوم اللواء المتقاعد خليفة حفتر )المسيطر على شرق البلاد وأكبر موانئ تصدير النفط(، على العاصمة طرابلس مقر حكومة الوفاق الوطني المدعومة دوليا ومقر المؤسسة الوطنية للنفط التي تدير شؤون النفط في البلاد.
في تلك الفترة وبعد هجوم حفتر على طرابلس، جرى بينه وبين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب اتصال هاتفي، تطرق لأمن موارد ليبيا النفطية ما يظهر اهتمام الولايات المتحدة بالنفط وإمداداته أكثر من أي شيء أخر، في وقت يحذّر مراقبون من أن انعدام الأمن في ليبيا يهدد السلم الدولي بأكمله لموقعها الجغرافي في المتوسط.
من جهتها تعتبر فينزويلا من أكبر الدول التي لديها احتياطي يقارب 297 مليار برميل وإنتاج يومي بمليونين وثلاثمائة ألف برميل لكن رياح الفوضى السياسية امتدت إليها مطلع العام الحالي إثر الانتخابات الرئاسية التي فاز فيها الرئيس نيكولاس مادورو بينما رفض زعيم المعارضة خوان غوايدو الاعتراف بها ودعمته الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي فيما لم يستبعد ترامب التدخل العسكري الأمريكي لدعم حليفهم في بلد غني بالنفط.
لهذه الأسباب وغيرها، يرى مراقبون أن تزايد الاستهلاك العالمي من النفط ووصوله إلى مائة مليون برميل يوميا وبلوغ الإنتاج العالمي نحو 30 مليار برميل نفط خام سنويا حسب منظمة “رايستاد”، وتوقعات تزايد الضغط على كبار الدول المستهلكة والمنتجة، من شأنه تعزيز التوقعات بأن يتهدد السلم الدولي جراء السباق المحموم للسيطرة على موارد النفط خاصة في منطقة الشرق الأوسط التي تعجّ بالرهانات السياسية والأمنية والعسكرية.
This post was published on 2020-05-19 16:05